الأحد، 28 مايو 2017

المؤمن القوي . بقلم المبدع // أحمد عبد اللطيف النجار

- سرد قصصي 
ـــــــــــــــــــــــ
المؤمن القوي 
بقلم
أحمد عبد اللطيف النجار 
كاتب عربي
&& ليست قصة ،، سرد قصصي يفوق القصة && 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما بين ضعف الإيمان وقوة الإيمان شعرة رفيعة حاسمة بين إيمان وإيمان ، تلك هي شعيرة الرضا والقناعة والاقتناع الداخلي بالمقدر والمقسوم .
والأحزان مع النفس القوية تزيدها صلابة وقوة ، ومع النفوس الضعيفة تزيدها ضعفاً واستسلاماً لليأس والقنوط من رحمة الله 
هدية امرأة مؤمنة قوية الإيمان ، وهبها الله زوجاً نورانياً في تفكيره ورضاه بقضاء الله بقلب ثابت لا يهتز من المحن والخطوب .
جاءتني هدية ذات يوم مستبشرة ، سعيدة علي وجهها هالات النور الإيمانية تقول : كنت طالبة بالسنة الرابعة بكلية التربية في التاسعة عشرة من عمري ، حين التقيت في القطار بشاب عمره 25 عاماً ، يركب معي القطار يومياً من مدينتي الزقازيق إلي القاهرة ، ذلك هو راضي .
تعارفنا وتكررت لقاءاتنا في مناسبات اجتماعية وعائلية مثل حفل زواج شقيقته ، وبمرور الأيام ارتبطت به عاطفياً وتمنيته زوجا لي ، ثم جاءته فرصة سفر للعمل بالخارج ، فتقدم لأسرتي يخطبني وقوبل طلبه بالرفض الشديد لأنه سيحرمني من استكمال تعليمي ، وكذلك لأنه يحمل مؤهل متوسط ، لكني استطعت إقناع أمي به وتمكنت هي بدورها من إقناع أبي بالموافقة علي زواجي منه والسفر معه علي وعد منه بأن استكمل دراستي في البلد الذي سيعمل به .
تم عقد قراننا بغير احتفال وسافر راضي إلي مقر عمله ، وبعد ثلاثة شهور سافرت إليه مرتدية فستان الزفاف الأبيض ، واستقبلني زوجي في المطار مع عدد من زملائه وقفوا يرشوننا بالملح وتزغرد زوجاتهم وسط دهشة المسافرين وابتساماتهم ، ثم انطلقنا في زفة من 4 سيارات إلي شقة الزوجية .
بدأت حياتي الزوجية مع راضي وأنا مستبشرة وعشنا حياة زوجية هادئة سعيدة ، لكني لم استطع استكمال دراستي لصعوبة الحياة في الغربة ولم اهتم لذلك .
بعد عام فكر زوجي في استكمال تعليمه إحساسا منه بأن مؤهله المتوسط كان من أسباب رفضه ، وشجعته علي ذلك بحماس ، والتحق راضي بمدرسة ثانوية ليلية كي يحصل علي الثانوية العامة ، وكنت اكتب له المذكرات والملخصات واجلس معه للاستذكار واسهر معه ليالي الامتحانات حتي الصباح إلي أن استطاع الحصول علي الثانوية العامة بعد ثلاث سنوات وانتسب لكلية الآداب في مصر وقدم أوراقه لها .
مرت الأيام والشهور وواصلت الكفاح معه بنفس الطريقة ، فكنا نعود إلي مصر كل سنة ليؤدي الامتحان ثم نعود .
واصل راضي نجاحه حتي وصل إلي السنة الثالثة ثم عدنا إلي أم الدنيا مصر ، واعددنا شقتنا وأثثناها وألحقنا ابنتنا بأقرب مدرسة ، وعاد زوجي لعمله الحكومي ، وتفرغت أنا تفرغاً كاملاً لزوجي وابنتي .
تقدم راضي لامتحان الليسانس وحصل علي شهادته واستثمرنا مدخرات الغربة في افتتاح مكتبة للأدوات المدرسية في نفس البيت الذي نقيم فيه ، فأصبح زوجي يقف في المكتبة معظم وقته بعد عمله الحكومي ، وقد سعدت كثيراً بحياتي معه ولم اندم علي اختياره شريكاً لحياتي ، فهو مهذب ومتدين ، يعرف حقوق ربه وبار بأهله ويحترم أهلي ويعاملني بعطف واحترام ، ولا تغيب الابتسامة عن وجهه حتي في لحظات الخلاف القليلة التي لا تخلو منها أي حياة زوجية ؛ كان راضي سباقاً دائماً للصلح مع ابتسامة رائعة تعلو وجهه البشوش .
هكذا عشنا سنوات طويلة في بهجة دائمة ورزقنا المولي عز وجل طفلنا الثاني وشكرت ربي ودعوته أن يحفظ علينا سعادتنا .
فجأة ذات يوم أغلق راضي المكتبة ، ليعود إلينا متألماً آلام شديدة ، فذهبت به علي الفور إلي الطبيب الذي أعطاه بعض المسكنات لكن الآلام لم تختف .
تنقلنا بين الأطباء ثم بدأنا رحلة عذاب طويلة ، فقد أصيب زوجي الحبيب بمرض نادر يفقده القدرة علي الحركة تدريجياً ويعّرضه لآلام لا يطيقها بشر إذا تحرك أى حركة .
أجرى راضي سبعة عمليات جراحية تعذب خلالها عذاب الأنبياء وصبر صبرهم ، ولم يفقد تفاؤله ولا ابتسامته ، ولم يبك مرة واحدة حتي أنه غضب مني حين رأي دمعتي ونهرني قائلاً : الحزن من ضعف الإيمان ، فجفت دمعتي من يومها ولم 
أبك أمامه ، وبعد قليل استمددت منه بعض شجاعته ؛ فلم أعد أبكي حتي بين وبيني نفسي !
انتهت رحلة علاج راضي وعاد للبيت شبه قعيد لا يقدر علي الحركة ، يقضي ساعات الليل والنهار في فراشه لأنه يحس بآلام رهيبة إذا تحرك أو إذا طالت جلسته عن نصف ساعة وأحياناً أقل !
بعد عودته للبيت طلب مني أن نواجه الواقع بصبر وشجاعة ونرضي به وننظم حياتنا علي أساسه ، فقررنا بيع المكتبة ونضع المال في البنك كي نعيش بفائدته ، بالإضافة لمعاش العجز الذي تقرر لزوجي الحبيب من وظيفته .
مرت الأيام والشهور الطويلة وراضي لا يغادر البيت وأصبحت ألازمه ليل نهار .
ذات يوم فاجأني بأن طلب مني استكمال دراستي التي توقفت عنها من أجله ، قال لي أن الوقت قد حان كي يرد لي جميلي ويساعدني في الاستذكار كما فعلت معه من قبل ، شجعني راضي علي المذاكرة بالفعل إلي جانب استذكار دروس الأبناء ، وتقدمت لامتحان الثانوية العامة ونجحت لحمد الله والتحقت بمعهد عال وحصلت علي شهادتي ، وإذا بزوجي الحبيب راضي يسعي عن طريق أقاربه لتعييني في مدرسة قريبة من البيت ، ويقنعني بالعمل كي اتحمل المسئولية من بعده وأصمد للحياة إذا وجدت نفسي فجأة وحيدة ! 
نفذت رغبته والتحقت بالعمل ، أم هو فقد كان يقضى أوقات وجودي بالعمل وحده بالمنزل يستغلها في القراءة ومشاهدة التليفزيون ، وكنت أعود من عملي متلهفة ، فأجده في انتظاري يسألني عن أخبار العمل ، وحين قبضت أولا راتب حملته إليه بسعادة ، فقال لي أنه عائد عملي وعرقي وأنه من حقي أن أتصرف فيه كما أشاء .
والآن لحمد الله وفضله مضت عشر سنوات كاملة وزوجي الحبيب سجين سريره يملأ حياتي بهجة وسعادة وحكمة واطمئنان رغم آلامه الرهيبة التي يستعين عليها بالمسكنات .
طوال هذه السنوات لم أسمع منه كلمة (( آه )) رغم أن الطبيب أخبرني أن مرضه يسبب للإنسان آلام غير محتملة !
طوال تلك السنوات لم يغادر زوجي الحبيب البيت ، وأصبح بيتنا مزاراً لأسرتي وأسرته ، الجميع يحبونه ويحترمونه ويجدون متعة كبيرة في مجالسته ، والجميع يستشيرونه في مشاكلهم ويجدون عنده دائماً الحلول الملائمة .
وكل صباح حين أفتح عيني أجدة مستيقظ ينظر أليّ بعطف وحنان وقد تحامل علي نفسه وذهب للمطبخ وأعد شاي الصباح ثم عاد به للفراش ينتظرني أن أصحو ليشربه معي .
وأنني أحمد الله علي أن جمعني به وأدعو له بالشفاء وأن يستطيع ذات يوم أن يغادر البيت ماشياً علي قدميه وممسكاً بيدي ابنه وابنته في نزهة قصيرة كما يفعل الآباء ولو لمدة نصف ساعة .
أنني لست حزينة علي الإطلاق ، بل إنني تعلمت الرضا من زوجي راضي ، تعلمت درس حياتي وهو أن الحزن من ضعف الإيمان وأن المؤمن القوى أحب إلي الله من المؤمن الضعيف ، تعلمت الحرص علي فروض ديني ، تعلمت الرفق باليتامى والمساكين والمعاقين ،، تعلمت الكثير والكثير من زوجي الحبيب .
تلك كانت قصة زوجة صابرة مع زوجها المؤمن المُبتلي راضي الحكيم في تفكيره وأفعاله ، الذي عرف مبكراً أن المغالاة في الحزن والاستسلام له بلا طائل ولا نهاية وأمام ما لا حيلة للإنسان فيه هو حقاً من ضعف الإيمان ، فالنفس المؤمنة نفس مطمئنة دائماً ومهما عصفت بها الرياح ، ولقد أدرك المصلحون من البشر أن علي الإنسان أن يتقبل كل ما تحمله إليه الأقدار 
ويتعايش مع القدر بخيره وشره ، ويتجنب آثاره المدمرة لروحه وعقله .
وقد قالها الإمام الشافعي شعراً رائعاً حكيماً يدعو إلي الرضا بالقضاء والقدر :
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء
ولا تجزع لأحداث الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء 
نعم ما لحوادث الدنيا بقاء ، وعلي الإنسان العاقل أن يبحث عن السلوى والعزاء دائماً في جوانب حياته المضيئة كي تعينه علي احتمال جوانبها المعتمة .
وقد أدرك ذلك الرجل الحكيم الصابر الراضي تلك الحقيقة جيداً ونفخ من روحه في روح زوجته فأشاع في حياتهما سعادة ملائكية قد تفتقدها كثيرات يعاشرن أزواجاً لم تمتحنهم الحياة بأخف أثقالها !!
ذلك هو الفارق الجوهري بين المؤمن القوي في إيمانه والمؤمن الضعيف الذي يهتز لأبسط ألم يصيبه في دنياه ، فينهزم ويكتئب ويشيع الكآبة علي من حوله ويشقي به الجميع .
أحمد عبد اللطيف النجار 
كاتب عربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق