الأحد، 17 فبراير 2019

دراسة تحليلية في لغة القصة القصيرة " قلوب باردة " للاديبة السورية " جوليا علي ". بقلم المبدع // باسم الفضلي العراقي ـ

......{ شعرية بنية اللغة السردية }.......
دراسة تحليلية في لغة القصة القصيرة " قلوب باردة "
للاديبة السورية " جوليا علي "
القصة
*****
{ هذيان الرياح، هذا النهار ، هدَّ هدوء الاشجار، فهمهمت أوراقها متهاوية ، عن أغصانها المتهالكة ،على جدران حديقة دار، تنطق قسمات ردهاته، بوجوم وجوه المسنين ، كانت كعادتها في مثل هذا اليوم ، مع أزوف جديد موعد نسيانها ، تقودها قدماها المرتعشتان ، لتتكوَّم لاهثةً ، في ظل صنوبرة عجوز،على مصطبة خشبية ، رحل عنها طلاؤها ، فصارت تذكِّرها ببعيد زمن لاتذكره ، هجرتها فيه جميع الفصول ، سوى حضن مهجعها ، ظلت اليأس يرتديها ، ويخلعها الحنين لاتملُّ عزلتها ، وقتها نفت عنها كل اللغات ، ولم تعد تتحدث إلا بعينين ذابلتين ، تذرفان حروفا حبلى بأسرار انطفائها ، لكم تاقت ان يتمخضنَ مَرَّة ، فيلدنَ مفردات من جمر، يصرخنَ لهيباً، بما في دواخلها ، كان اليأس يرتديها ، ويخلعها الحنين ، وعيناها مشدودتان بلهفة مُرَّة ، صوب مدخل الزوار، لطالما تمنّت أن يأتيها أحد ما؛ أيا كان، لكن ...،.غير أنها ، لمحت طيفا ، سرعان ما منعتها دمعة حائرة، ترقرقت في مآقيها، من أن تتبينه، ما كادت تستحضر من بين خرائب ذاكرتها صورته ، تنطق اسمه، 
حتى سبقها الصمت، ببناء الحجر الأخير، من جداره على فمها.}
----------
الدراسة 
**** 
يمكن عدُّ هذا الخطاب الادبي ، مما يندرج في خانة النصوص المتداخلة الاجناس
( اي التي تتداخل في بنية لغتها التعبيرية ،عناصر فنية للغة جنس ادبي اخر او اكثر )
،فنسيج لغته السردية ، موسوم بجماليات وتقنيات اشتعالية شعرية حداثوية ( كالتكثيف ، الترميز،الصورة الشعرية ، الانزياح ، الايحاء ، الإيقاع ..إلخ ،) ، كما ستبينه الدراسة لاحقاً ،كمركبات لبُناه الأسلوبية ، في سياق لغوي ـ عاطفي ، و يتمظهر هذا التعالق في المستوى الدلالي ،الصوتي ، والازاحي ، مما مكّن الكاتبة من خلق فضاء تعبيري رحب الثراء ، خصب التوليد للدلالات ، وهذا ما فتح النص على تعددية قرائية ومن ثم تأويلية ، وفق هذه المقاربة :
نص منتج للدلالات = طبقات المعنى + طبقات القراءة
وهذا ماستشتغل عليه دراستى ، وابدأها بتفكيك بُنى العتبة العنوانية ( قلوبٌ باردةٌ ) ،التي يبدو الانطباع الاولي عن معناها الظاهر انه مباشر مستهلك المعاني مما يباعد بينه وبين اللغة الشعرية ، وقصدية التفكيك الحصول على آلية ( مفتاح ) تأويلية لدلالات اشارات لغة متن النص ، ومقاربة مقاصدها، فالعنوان يمثل النواة الدلالية المولدة للدلالات الفرعية الأخرى المبثوثة في المتن ، ويرتبط معه بعلاقة تكاملية ،ترابطية وحتى جدلية فهو يسأل / يعلن ، و المتن يجيب / يشرح او يفسّر ، والأهم العثور على خصائص لغة شعرية في معناها التحتانيى :
* بنيتها الدلالية :
العبارة بتمامها ذات سياق احالي مقامي / خارجي ، لتحديد معناها العميق / التحتاني فدلالتها السياقية اللغوية ، لاتتعدى مجالها المعياري كما يلي :
المدلول المعجمي لكلا الاشارتين الدالتين ( قلوب ، باردة ) 
ـ قلوب : جمع قلب ، من اعضاء جهاز الدوران 
ـ باردة : فاقدة الحرارة ، مقابل ساخنة او حارة .
وهي دلالة غير متسقة في سياق اللغة الادبية. 
اما احالتها المقامية / سياق الموروث والثقافي الشعبي تعني :
المشاعر المتبلدة ، عديمة التعاطف مع الاخرين ، فالقلب في الموروث الثقافي الشعبي ارتبط في اللاوعي الجمعي بالمشاعر حتى صارمتعالقاً معها ، باعتباره وعائه ومصدرها ، واتصافها بالبرودة ( قلوب باردة ) ، دلالة على عجزها عن التفاعل الحسي العاطفي ،فبرودة الاجسام تعني فقدانها الحرا رة ، التي ارتبطت
حياتياً بالحركة كعلًةٍ لها، وكما في المقاربات المعنوية التالية :
ـ الاشارة قلوب = مصدر الشعور 
الشعور = اثر حسي حي يتولَّد عن اشتغالات ( نشاط حركي ) الجهاز العصبي ، فهي اذن متصفة بالحرارة
بتجميع هذه الدلالات :
قلوب = مصدر المشاعر الحارة الحية 
باردة = فاقدة الحرارة
فاقدة الحرارة = غير متحركة / خامدة ، ميتة 
وبتكثيف دلالة باردة : 
باردة = خامدة ، ميتة
ثم بتجميع دلالات الاشارتين :
قلوب باردة = قلوب ميتة الشعور ، قاسية ومن مرادفاتها ( عديمة الرحمة ، فاقدة لإنسانية التعاطف )
والدلالة هنا مزاحة عن معناها اللغوي / دلالة تحويلية
بذا يكون المعنى التحتاني للعتبة مولداً لدلالتها الفوقانية / الظاهرة على السطح
* البنية الصرفية :
ـ قلوب / ج. قلب : اسم آلة جامد ، 
ـ باردة : اسم فاعل من الفعل الثلاثي / برد ، وهو فعل لازم ( يلزم فاعله لايتعداه ) المقاربة المعنوية لدلالة ( اللزوم ) ، بإحالتها مقامياً / سلوك اجتماعي ، هي :
الانانية ، المنع ، الإثْرة ، عدم التواصل مع الغير 
وهذه المقاربة تكافئ دلالة الفعل اللازم في سياقه النحوي فهو اناني يؤْثر
الإكتفاء بفاعله حسب ، و لايؤثِّر فيما بعده اعرابياً ( بما يكافئ دلالةً / عدم التواصل معه ) ، وبمقاربة دلالتها المقامية :
قلوب ميتة الشعور = انانية لاتتواصل عاطفيا مع الاخرين
بذا عمّقت بنية الاشارة ( باردة ) الصرفية ، معنى بنيتها الدلالية اعلاه 
* البنية النحوية :
تفكيك الجملة العنوانية يخلص الى ان المُسند محذوف ، كما يلي :
ـ قلوبٌ : مبتدا مخصص بالصفة ( باردةٌ ) ، التي جعلته احدى النكرات التي يجوز
الإبتداء بها ، وفق قاعدة (المسوغات ) النحوية ، و الخبر محذوف جوازاً ، يُقدّر 
سياقياً ( السياق النحوي ) بضمير الغياب ، اما تقديره في سياق الدلالة العميقة
/ التحتانية للعتبة ، فمؤجل حتى اتمام تفكيك كامل النص. 
*البنية التركيبية :
جملة العتبة ، جملة اسمية تفيد الثبات والاستقرار، وهذا يكافئ دلالياً ديمومة قسوة 
تلك القلوب ، و انزياحها التركيبي ، بحذف خبرها / المسند ، يؤدي وظيفتين دلاليتين داخلية وخارجية :
- الداخلية ( نصية ) : تبئير المسند اليه ( المبتدأ ) ،اي الايحاء بأنَّ دلالته التحتانية 
، السابق ذكرها اعلاه ، ستكون بؤرة المعاني التي تدور حولها فكرة القصة الرئيسة 
- الخارجية ( خطابية ) : شدّ انتباه وفضول القارئ ( مفهوم الاستدراج )، فالحذف
يعني ان هناك مسكوتاً عنه يثير سؤالاً مقاربته هنا : قلوب من ؟ ،وهو يحيل الى
النص ، فالبحث عن اجابة عنه ، يدفع ذاك القارئ للدخول الى عالم القصة ( فهم النص ) .
ولنعرض بإيجاز سمات ما افضى اليها اشتغالنا التفكيكي من دلالات ومقاربات 
معنوية لبنية العتبة اللغوية وكما يلي :
- تعدد دلالاتها الاشاراتية / سطحية وعميقة، مما يجعلها ( شيفرة دلالية مكثفة ) 
- الإنزياح التركيبي فيها / الحذف له هذه الدلالات :
أ - افرز المحذوف توتراً انفعالياً ، بقصد اشراك القارئ في انتاج معنى العام للقصة من خلال دفعه الى تقدير دلالته والبحث في عالم النص الداخلي عما يقارب تقديره معنىً
ب - اثارة سؤال يحيل الى النص ، يعني وجود ترابط دلالي جدلي بينها ، اي بين العتبة وبين متن القصة الذي يقوم بالإجابة / التوضيح والتفسير. 
ج ـ بؤروية المسند اليه ، رسم ملامج اولية لفضاء النص الدلالي ،
- تعدد سياقاتها النصية ( لغوية ، مقامية )
وهذه السمات هي ذاتها سمات العتبة العنوانية للنص الشعري ، وهذا هو التقارب التعبيري الاول بين سيميائية اللغتين الشعرية والسردية .
وبالإتكاء على هذه المخرجات التفكيكية ، ساقوم بدراسة تحليلية لبنى اسلوب المتن للوقوف على مدى شاعريتها هي ايضاً وستأتي استشهاداتي النصية مقتضبة ، دفعا للاطالة وكذلك لصحة تعميم مايتحقق من نتائج على بقية.شواهد كل بنية .
بدايةً : اللغة الشعرية الحداثوية لغة انفعالية ،اشاراتية ، وسبق لي ذكر عناصرها الفنية و تقنيتها التعبيرية في مقدمة هذه الدراسة ، شتى انواع الانزياحات ؛التركيبة و الدلالية ، كذلك الصور الإيحائية و المجازية .التكثيف ، التخيّل ،وايقاعات تنغيمية حرفية ( فونيمات ) ، نبرية او ( سجعية ) وغيرها ، تشدها الى بعض روابط نسقية في سياق فني متين الحبكة ، وتشتغل صيرورة كل هذه العناصر حدثياً ، في فضاء ( نفسي / مكزماني ) مشحون بالاحباط ومشاعر التصدع الذاتي لبطلة القصة ، وتنعالق تقنيات اللغة الشعزية التي وظفتها الكاتبة ، مع تعبيرية السرد القصي للمتن ، على اكثر من مستوى :
ــ المستوى الصوتي :
نجد ان اصوات الاحرف ذات الايحاءات الحسية السلبية الاكثر تكراراً قد هيمننت على الفضاء النفسي للمتن وكما يلي :
الهاء : تكررت 52 مرة / دلالته الحسية : اليأس ،الحزن ، الألم والوهن 
التاء 64 مرة / الحزن ، الاعياء
الميم 44 مرة / الم وحزن وهن 
النون 61مرة / كدلالة الميم 
الحاء 14 مرة / الحنين ، الاشتياق
الفاء 18 / الضعف والوهن
مجموعها = 253 مرة في نص بلغت عدد مفرداته / 148 مفردة 
المقاربة المعنوية للفضاء النفسي الذي رسمت ملامحه الاحاسيس التي تثيرها اصوات الاحرف اعلاه يمكن تركيبها بإستحضار بعض مرادفاتها المحددة المعنى كما يلي :
( اليأس ) ؛ الاستسلام ، لاخلاص + ( الحزن ، الالم ، الوهن ) ؛ لاسلام داخلي + (الحنين ،الاشتياق) ؛ الحرمان ، الفقد = الغربة المكانفسية ، النفي الوجودي/ حضور غياب الزمن.
كما ان صوتَي الهاء الاولى في اولى مفردات المتن ( هذيان ) ، والاخيرة في اخر مفرداته ( فمها ) / صوت حرف الالف بعدها يطلق صوت الهاء متلاشيًا فيه كونه حرف مد ، مثّلا مطلع وخاتمة توليفة نغمية حزينة شكلها سمعيا تناوب تلك الاصوات ، حيث بدأ هامساً ( الهاء من الحروف المهموسة ) وانتهى متصاعدا كأنه يطلق وجعا استوطن دواخل بطلتنا تلك ، باتّساقية مع تصاعدية الحدث النصي .
واتبعت الكاتبة ( آلية النغيم ) لخلق بنية ايقاعية تتناغم مع الفضاء التعبيري وتعمق ايحاءاته النفسية ، واعتمدت هنا ايقاعين : 
الاول ـ الايقاع النبري :
( هدّ هدوء ) ، (فهمهمت ) ، ( اوراقها متهاوية )، ( اغصانها المتهالكة ) ، ( قسمات ردهاته) ، ( وجوم وجوه) 
الثاني ـ الايفاع السجعي :
( النهار / الاشجار ) ، ( متهاوية / متهالكة ) ، ( كعادتها / نسيانها ) ،
ويتضح لاتكلفية الكاتبة هنا ، في جعل العبارات هي من تختار ايقاعها ، فلا لزوم لما لايلزم 
ـ المستوى الازاحي وانواعها :
*الازاحة الدلالية كما في :
(هذيان الرياح ) ، (فهمهمت اوراقها) ، ( رحل عنها طلاؤها ) ، ( اليأس يرتديها )، (ويخلعها الحنين ) / هنا تكثيف دلالي .
* الازاحة التركيبية :
1ـ التقديم والتأخير : (تنطق بوجوم وجوه المسنين قسماتُ ردهاتُه ) ، ( لاتملُّ عزلتَها مواسمُه )، (عيناها بلهفة مُرَّة مشدودتان ) 
2ـ الحذف : ( لكن ... ) ، ( لمحت طيفا ...) ، ( ولكن ...) / توتز ايحائي 
* الازاحة الاحلالية : ( هدَّ هدوء الاشجار) ، ( تنطق قسمات ردهاته، بوجوم وجوه المسنين ) 
ـ مستوى الصور الفنية : صور متعددة الدلالات ، غرائبية ، لاواقعية ، تثير الدهشة واشتغالات الخيال لدى القارئ :
(حديقة دار، تنطق بوجوم وجوه المسنين قسماتُ ردهاته ) ، ( هجرتها فيه جميع الفصول ، سوى حضن مهجعها ) ،( تذرفان حروفا حبلى بأسرار انطفائها ) ،(ببناء الحجر الأخير، من جداره على فمها.)
ـ مستوى السبك والانسجام / الحبك :
*التكرار ( الإحالة الداخلية إلي ما هو سابق ) كما في ( حديقة دار، تنطق بوجوم وجوه المسنين قسماتُ ردهاته ) حيث يعود الضمير الهاء على متقدم عليها ( دار ) / كذلك في (على مصطبة خشبية ، رحل عنها طلاؤها )
*التضاد ، التقابل : ( تنطق / وجوم ) / ( تذكِّر / لاتتذكر ) / ( يرتديها / يخلعها )
* العطف : بحروف عطف ظاهرة ( الفاء / فهمهمت ، الواو/ ولم تعد ، ولكن ) الخ *علاقات الربط: (بالوصل والفصل، والأضافة، ).وهي واضحة في النص. 
بذا تتحققت شاعرية لغة المتن السردية كما تحققت قبلاً في العتبة العنوانية واستطاعت الكاتبة تذويب الحدود الاجناسية التي تفصل بين الاتواع الادبية بنجاح .
ــ باسم الفضلي العراقي ـ
17/ 2 / 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق