الخائن ..........!!
ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
العام كان ألفين وسبعة ، تحديدا شهر يونيو في بدايته ، كنت منتدبا لامتحانات الثانوية العامة بمدينة أسيوط ، وعلي ما أتذكر كان الدور الثاني ، كان معي زميلي بهاء وزميل آخر ولكنه من مدرسة أخري ولكنها تقع في نفس مدينتي ، سافرت أنا وبهاء في أتوبيس الساعة العاشرة مساءا والمتجه إلي أسيوط ، ظل الأتوبيس يسير بنا طوال الليل ووصلناها في السادسة صباحا ، أخذنا نبحث عن الاستراحة المخصصة لنا ، دلنا موظفو المديرية علي استراحة تقع علي النيل مباشرة بعد قسم ثان أسيوط ، استراحة من الفخامة والبهاء ما جعل تعب السفر والإرهاق يزول ،وقفنا علي باب الاستراحة الكائنة في إحدى المباني القديمة والتي يبدو من شكلها أنها كانت قصرا لشخص ما في الماضي ، لم يستقبلنا أحد ولم نجد حتي بوابا أو شخصا في استقبالنا ( هكذا كنت أمازح صديقي بهاء ) كانت الاستراحة في الدور الثاني من المبني العتيق والذي مازال محتفظا بجماله رغم مرور مئات السنين علي بنائه كما يبدو ، دخلنا شقة في الدور الثاني وكانت معلقة لوحة كتب عليها استراحة كبار الزوار وكان بابها مفتوح فدخلنا ، الشقة كانت تحتوي علي أكثر من أربع غرف ، كل غرفة مؤسسة بأثاث فاخر ، وبها تكييف ، وثلاجة ، ونظام إعاشة كامل من الأجهزة والمفروشات ، وكانت بكل غرفة سريرين يتسع الواحد منهما لشخص واحد فقط ، ألقيت الحقيبة الخاصة بي بجوار السرير المقابل لباب الشقة واستلقيت من الإرهاق والتعب حتي غبت عن الوعي تماما ، عقارب الساعة كانت تشير إلي السادسة والنصف صباحا حينما دخلنا شقة الاستراحة ،استيقظت علي يد تهزني بلطف من كتفي وصوت هادئ يقول : أستاذ !! أستاذ !! انتبهت وكأني كنت في حلم ، نظرت إلي الشخص الذي يوقظني وجدته غريب وسحنة لم أرها من قبل ، فنهضت جالسا وأنا أفرك في عيني وأقول : نعم ، خيرا ، فقال الشخص : أنا أحمد سلطان موظف الاستراحة ، تنبهت أكثر وأيقنت بأنني لا أحلم فقلت له : أهلا وسهلا بحضرتك ، فقال لي بأدب جم : لو سمحت بطاقة حضرتك حتي أدون بيانات الإقامة وأعتذر عن إقلاق سعادتك ،فقلت له : أبدا لا يوجد قلق ، أخرجت البطاقة من جيب المحفظة وأعطيتها له ، نظر إلي البيانات الخاصة بي وحينما قرأ الوظيفة وجدته يبتسم ويقول : استأذنا ألم تقرأ اللوحة المكتوبة علي مدخل الاستراحة ، فقلت له بلي ، فقال إذن : آسف فهذه الاستراحة ليست لكما إنها لكبار الزوار يعني من مدير عام فما فوق حتي درجة وزير ، حقيقة لم أجد ما أرد به عليه غير الاعتذار وفي نفس الوقت أوضحت له أن الذي دلنا علي هذه الاستراحة هم موظفو المديرية ونحن غرباء عن المدينة وهذه هي المرة الأولي لنا في أعمال الامتحانات بها ، تبسم الرجل وقال بكل أدب : عادي هذه الأمور كثيرا ما تعرضنا لها ، سألته إذن أين توجد الاستراحة الخاصة بالملاحظين ،فدلنا الرجل علي استراحة في غرب البلد بعد شارع الجمهورية وهذه خاصة بلجان بعض المدارس من ضمنها المدرسة التي سنراقب فيها ، استقلينا تاكسيا وتوجهنا إليها ، وصلناها ووجدنا المسئول عنها يستقبل الملاحظين ويدون بياناتهم وكانت الاستراحة عبارة عن مدرسة ابتدائية مجهزين بعض فصولها كاستراحات رص فيها عدد كبير من الأسرة التي عفي عليها الزمن عبارة عن أسرة معدنية أكلها الصدأ وعليها مراتب أسفنجية غاية في القذارة ، وكذلك مفروشة بملاءات ممزقة وقديمة ورائحة التخزين واضحة جدا كأنها مخزنة منذ أيام الفراعنة ، الوضع في منتهي القسوة والمأساة وكل عشر زملاء ( ملاحظين ) مع بعض في حجرة واحدة مزودة بمراوح متهالكة والأسرة خارج الخدمة منذ أيام الهكسوس ، نظرت إلي بهاء ولسان حالنا يتندر بالاستراحة السابقة مع الفارق أننا لسنا من كبار الزوار ، تخيرنا سريرين متجاورين وقمنا بإزالتهما ووضع المراتب علي الأرض حتي لا نصاب بالغضروف من استعمالهما
لحسن الحظ كانت المدرسة التي سنلاحظ بها قريبة جدا من المديرية ، كانت تضم عدد كبير من المدارس ومن القرى المحيطة بالمدينة ، كان معي تليفون محمول ماركة سيمنز صغير الحجم ،كثيرا ما كنت أتركه علي السرير المجاور لمرتبتي المفروشة علي الأرض وأذهب لأؤدي بعض شئوني ( عمل شاي ، تسخين طعام ...الخ ) مر شهر بالتمام علي وجودنا بعيدا عن ذوينا في تلك المدينة العريقة ، وكان وسيلة اتصالنا بهم أجهزة المحمول التي معنا ، وبعد انتهاء الامتحانات عدنا إلي بلدنا وكلنا فرحة بالرجوع ، بدأ العام الدراسي وانهمك كل واحد منا في عمله ، وذات يوم جاءني اتصال من الإسكندرية موطني الأصلي ، المتصل كان ابن أختي ، بعد السلام والسؤال عن الأهل والأحباب والمعارف ، سألني أبن أختي عن زميلي بهاء ، في البداية اندهشت ، سألته لماذا ، فقال : أبدا بس أرجوك يا خالي تأخذ حذرك منه ، زادت دهشتي أكثر وسألته مرة أخري : أخذ حذري منه كيف ولماذا ؟؟ فقال : الأستاذ اللي أنت نازل شكر فيه لدرجة أنك تقول فيه قصائد إنسان خائن ولا يؤتمن جانبه ،قلت لابن أختي : يابني أوضح ؟ فسر ؟ فقال : الأستاذ أرسل رسالة هاتفية لبنت خالي الكبير أدهم رسالة غرامية وكلها عشق وهيام ويطلب منها أن يتصادقا بل أكثر من ذلك طلب أن يخطبها ولكنه اشترط أن يتعارفا أكثر حتي تكون الخطوبة لا لبس فيها ولا تدليس ، سألته وكيف تأكدت أن الذي أرسل الرسالة هو صديقي بهاء ، فقال لي : أنسيت ياخالي أنني مكثت عندك لأكثر من عام وأن تليفون هذا البهاء معي ، الموضوع أنني كنت في زيارة لمنزل خالي الراحل أدهم وأثناء وجودي أرسل هذا السفيه الرسالة فسألتني ابنة خالي إن كنت أعرف صاحب هذا الرقم المصاحب للرسالة والتي غير فيها اسمه إلي منتصر الفولي وحينما شاهدت الرقم أخرجته من تليفوني وعرفت أنه هو ، الذي حيرني وشغل بالي كيف عرف ابنة خالي وهما لم يتقابلا ولا مرة ، وكيف عرف رقم تليفونها ، فقلت له لا تشغل بالك ولسوف أنهي هذا الموضوع بنفسي ،دارت برأسي العديد من الأسئلة ، كيف لهذا البهاء من الحصول علي رقم ابنة أخي وأخذت أرجع بالذاكرة رويدا رويدا وفجأة أضاء نور مباغت مخيلتي حينما تذكرت أنني كنت أترك التليفون علي السرير وأقوم لإعداد شيء ما أو أكون في الحمام آخذ حمام ، فهذا هو تفسير حصول بهاء علي رقم ابنة أخي ولا تفسير آخر ، طلبت من ابنة أخي إرسال شريحة التليفون الخاصة بها إلي ، بالفعل أرسلتها بعد أيام من مهاتفتها ، أخذت الشريحة معي إلي العمل ، كان مدير المدرسة رجل حازم وشديد وكنت أحب التعامل معه لا لشيء وإنما لأنه لا يبخس أحد حقه ولا يلجأ إلي المهادنة أو المواربة في عمله ، طرقت باب مدير المدرسة مستأذنا في الدخول فسمح الرجل ،بعد السلام اتخذت مقعدا بجانب المكتب ، سألني خيرا أستاذ جعفر ؟؟ أجبته مباشرة : أستاذ عبد السميع لن أطيل علي سيادتكم وأرجو عدم دخول أحد علينا لأن الموضوع غاية في الحساسية والأهمية ، ضغط مدير المدرسة زرا بجواره ، فأتي العامل الخاص بمكتبه فطلب منه عدم السماح لأحد بالدخول ، فأومأ العامل برأسه قائلا : حاضر أستاذ عبد السميع وجذب باب المكتب خلفه وانصرف ، اعتدل الرجل في جلسته وهو يقول لي : ها أستاذ جعفر هات ما عندك ، قصصت عليه الموقف بل الأزمة وكان وجه الرجل كلما قصصت عليه يتلون دليل عدم الرضا والانزعاج ، وفي النهاية سألني سؤالا : أستاذ جعفر وهل أنت متأكد أن الرقم الذي أرسل الرسالة لابنة أخيك هو رقم الأستاذ بهاء ؟؟ أجبته : كنت متأكدا أن سيادتكم ستسألني هذا السؤال ولذلك أحضرت الشريحة الخاصة بابنة أخي معي وأريد قبل استعراض الرسالة أن تكون في حضور الأستاذ بهاء ومواجهته أمام سيادتكم ، استخرجت شريحتي من تليفوني أمام مدير المدرسة ووضعت شريحة ابنة أخي ، نادي المدير علي العامل فجاء مسرعا : نعم أستاذ عبد السميع ، فقال له : من فضلك ياعم حسنين اذهب ونادي علي الأستاذ بهاء وأكد عليه ضرورة المجيء إلي مكتب مدير المدرسة فورا ، دقائق وحضر الأستاذ بهاء ، طرق باب المكتب فأذن له المدير بالدخول ، فقال بهاء : نعم سيادة المدير عم حسنين أبلغني أن سيادتكم تريدني في أمر ضروري ، رآني بهاء ، فمد يده إلي بالسلام فبادلته السلام ثم اتخذ مقعدا بجواري وجلس ،وهو يوجه حديثه لمدير المدرسة : أؤمر سيادتك !! ، قال له مدير المدرسة سأسألك سؤالا وأرجو أن تجيبني عليه صراحة ، قال بهاء تفضل حضرتك ، قال مدير المدرسة أستاذ بهاء أنت أرسلت لابنة أخو الأستاذ جعفر رسالة تليفونية بتاريخ 24/8/2007م ، تغير لون بهاء وبهت وأخذ في بلع ريقه بصعوبة مع تلعثمه وظهور العرق الغزير علي وجهه وأجاب بالنفي ، أعاد مدير المدرسة سؤاله لبهاء في هدوء تام قائلا له أن هذه المسألة لا تحتاج نفي لأن معه دليل إدانته ، أقسم بهاء بأنه لم يرسل أية رسائل لأي أحد في هذا التاريخ وظل يناور ويحاور وفي تلك الأثناء دخل الأستاذ عبد الجواد المدير الثاني للمدرسة وكان شخصية مرحة ومحبوب من الجميع ، أشار له مدير أول المدرسة بالجلوس وبعد سماعه للمشكلة حاول إضفاء جو من المرح علي الجلسة التي شابها التوتر والانفعال ،فقال له المدير أستاذ عبد الجواد الموضوع جد خطير ويمس سمعة إنسانة ليست موجودة بيننا فبرجاء خذ الأمر بجدية أكثر ، ووجه حديثه للأستاذ بهاء : أستاذ بهاء نحن نعلم أنك إنسان وقور إن كنت فعلتها اعتذر وينتهي الموضوع ، كانت عبارة الأستاذ عبد الجواد كطوق النجاة الذي سينقذ بهاء من الغرق فقال : بالرغم من أني لم أفعل هذا الأمر المشين فإن كان اعتذاري ينهي الموضوع فأنا اعتذر ، هنا تدخلت بعد استئذان المدير الأول قائلا : لا يا أستاذ بهاء الاعتذار وحده لا ينهي الأمر أنا لدي حق وسوف آخذه بالقانون ، فتبجح بهاء علي وقال : ليس لديك أي حق عندي وإن كان لديك حق فهات الإثبات الذي يدل علي ذلك ، نظرت إلي مدير إدارة المدرسة وابتسمت وأخبرته بأن لدي إثبات قوي جدا وسوف أقدمه للشئون القانونية التي ستبحث في الأمر ، تكهرب الجو وكادت الأمور تنفلت من يد مدير إدارة المدرسة وقد علا الصوت وبدأ كبراء المدرسة يتوافدون مستفسرين عن الأمر إلا أن مدير إدارة المدرسة طلب من الجميع الانصراف إلي أعمالهم ، هدأ الأمر قليلا وطلب مدير إدارة المدرسة من الأستاذ بهاء إعطائه التليفون الخاص به ، كان المدير قد دون في وقت سابق رقم التليفون المدون أسفل الرسالة التي بعثها إيهاب لابنة أخي ، وقام المدير بالاتصال بالرقم وإذا بهاتف الأستاذ بهاء يرن ، فقال له مدير إدارة المدرسة : ما قولك في هذا يا أستاذ بهاء وكان يشير إلي تليفونه ، أجاب بهاء عادي أستاذي فرقم تليفوني مع الجميع بما فيهم حضرتك حتي أن الكشف المعلق بأرقام تليفونات هيئة التدريس بالمدرسة علي الحائط خلف سيادتكم يحتوي علي رقم تليفوني ، فقال له مدير إدارة المدرسة ، ولكني يا أستاذ أخذت الرقم من الرسالة التي بعثت بها وقبل أن تقول شيئا سأريك الرسالة وسوف أجعلك تقرأها ، بالفعل أدار المدير تليفوني المحمول والذي به شريحة ابنة أخي فظهرت الرسالة ولم يستطع بهاء ساعتها الإنكار وقد ألجم فمه ولم ينبس بأي كلمة ، قال مدير المدرسة معقبا علي ذلك : أستاذ بهاء هذه خيانة لصديقك الذي ائتمنك علي تليفونه ولكن ضميرك السيئ قد أشار عليك بالخيانة وطاوعته بالرغم من أنك رجل متزوج ولديك أطفال فلما تصرفت بهذا الشكل المخزي أنت عار علي المدرسة ولا تؤتمن لأن المدرسة بها طالبات واخشي عليهن من أمثالك وإن لم أتخذ إجراء رادع فلسوف أكون خائنا للأمانة مثلك سأرفع شكوى الأستاذ جعفر للإدارة التعليمية للنظر في أمرك وأرجوك لحين البت في أمرك خذ أجازة ولسوف أوافق عليها لأنني ليست في استطاعتي إيقافك عن العمل ، صعد مدير إدارة المدرسة الشكوى التي قدمتها كتابة إلي مدير عام الإدارة التعليمية والذي بدوره حولها للشئون القانونية والتي قامت لاحقا باستدعائي والأستاذ بهاء للتحقيق في أمر الشكوى قدمت مستنداتي التي تدين الأستاذ بهاء وهي شريحة التليفون المحتفظ فيها بالرسالة التي أرسلها الخائن بهاء وفي النهاية صدر قرار الشئون القانونية باستبعاد بهاء عن أي مدرسة مختلطة أو خاصة بالبنات فقط واكتفوا بلفت نظره دون توقيع الجزاء عليه.
ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
بقلمي / محمود مسعود ( قصة قصيرة ) 23/5/2017م
ــــــــــــــــــــــــــ
العام كان ألفين وسبعة ، تحديدا شهر يونيو في بدايته ، كنت منتدبا لامتحانات الثانوية العامة بمدينة أسيوط ، وعلي ما أتذكر كان الدور الثاني ، كان معي زميلي بهاء وزميل آخر ولكنه من مدرسة أخري ولكنها تقع في نفس مدينتي ، سافرت أنا وبهاء في أتوبيس الساعة العاشرة مساءا والمتجه إلي أسيوط ، ظل الأتوبيس يسير بنا طوال الليل ووصلناها في السادسة صباحا ، أخذنا نبحث عن الاستراحة المخصصة لنا ، دلنا موظفو المديرية علي استراحة تقع علي النيل مباشرة بعد قسم ثان أسيوط ، استراحة من الفخامة والبهاء ما جعل تعب السفر والإرهاق يزول ،وقفنا علي باب الاستراحة الكائنة في إحدى المباني القديمة والتي يبدو من شكلها أنها كانت قصرا لشخص ما في الماضي ، لم يستقبلنا أحد ولم نجد حتي بوابا أو شخصا في استقبالنا ( هكذا كنت أمازح صديقي بهاء ) كانت الاستراحة في الدور الثاني من المبني العتيق والذي مازال محتفظا بجماله رغم مرور مئات السنين علي بنائه كما يبدو ، دخلنا شقة في الدور الثاني وكانت معلقة لوحة كتب عليها استراحة كبار الزوار وكان بابها مفتوح فدخلنا ، الشقة كانت تحتوي علي أكثر من أربع غرف ، كل غرفة مؤسسة بأثاث فاخر ، وبها تكييف ، وثلاجة ، ونظام إعاشة كامل من الأجهزة والمفروشات ، وكانت بكل غرفة سريرين يتسع الواحد منهما لشخص واحد فقط ، ألقيت الحقيبة الخاصة بي بجوار السرير المقابل لباب الشقة واستلقيت من الإرهاق والتعب حتي غبت عن الوعي تماما ، عقارب الساعة كانت تشير إلي السادسة والنصف صباحا حينما دخلنا شقة الاستراحة ،استيقظت علي يد تهزني بلطف من كتفي وصوت هادئ يقول : أستاذ !! أستاذ !! انتبهت وكأني كنت في حلم ، نظرت إلي الشخص الذي يوقظني وجدته غريب وسحنة لم أرها من قبل ، فنهضت جالسا وأنا أفرك في عيني وأقول : نعم ، خيرا ، فقال الشخص : أنا أحمد سلطان موظف الاستراحة ، تنبهت أكثر وأيقنت بأنني لا أحلم فقلت له : أهلا وسهلا بحضرتك ، فقال لي بأدب جم : لو سمحت بطاقة حضرتك حتي أدون بيانات الإقامة وأعتذر عن إقلاق سعادتك ،فقلت له : أبدا لا يوجد قلق ، أخرجت البطاقة من جيب المحفظة وأعطيتها له ، نظر إلي البيانات الخاصة بي وحينما قرأ الوظيفة وجدته يبتسم ويقول : استأذنا ألم تقرأ اللوحة المكتوبة علي مدخل الاستراحة ، فقلت له بلي ، فقال إذن : آسف فهذه الاستراحة ليست لكما إنها لكبار الزوار يعني من مدير عام فما فوق حتي درجة وزير ، حقيقة لم أجد ما أرد به عليه غير الاعتذار وفي نفس الوقت أوضحت له أن الذي دلنا علي هذه الاستراحة هم موظفو المديرية ونحن غرباء عن المدينة وهذه هي المرة الأولي لنا في أعمال الامتحانات بها ، تبسم الرجل وقال بكل أدب : عادي هذه الأمور كثيرا ما تعرضنا لها ، سألته إذن أين توجد الاستراحة الخاصة بالملاحظين ،فدلنا الرجل علي استراحة في غرب البلد بعد شارع الجمهورية وهذه خاصة بلجان بعض المدارس من ضمنها المدرسة التي سنراقب فيها ، استقلينا تاكسيا وتوجهنا إليها ، وصلناها ووجدنا المسئول عنها يستقبل الملاحظين ويدون بياناتهم وكانت الاستراحة عبارة عن مدرسة ابتدائية مجهزين بعض فصولها كاستراحات رص فيها عدد كبير من الأسرة التي عفي عليها الزمن عبارة عن أسرة معدنية أكلها الصدأ وعليها مراتب أسفنجية غاية في القذارة ، وكذلك مفروشة بملاءات ممزقة وقديمة ورائحة التخزين واضحة جدا كأنها مخزنة منذ أيام الفراعنة ، الوضع في منتهي القسوة والمأساة وكل عشر زملاء ( ملاحظين ) مع بعض في حجرة واحدة مزودة بمراوح متهالكة والأسرة خارج الخدمة منذ أيام الهكسوس ، نظرت إلي بهاء ولسان حالنا يتندر بالاستراحة السابقة مع الفارق أننا لسنا من كبار الزوار ، تخيرنا سريرين متجاورين وقمنا بإزالتهما ووضع المراتب علي الأرض حتي لا نصاب بالغضروف من استعمالهما
لحسن الحظ كانت المدرسة التي سنلاحظ بها قريبة جدا من المديرية ، كانت تضم عدد كبير من المدارس ومن القرى المحيطة بالمدينة ، كان معي تليفون محمول ماركة سيمنز صغير الحجم ،كثيرا ما كنت أتركه علي السرير المجاور لمرتبتي المفروشة علي الأرض وأذهب لأؤدي بعض شئوني ( عمل شاي ، تسخين طعام ...الخ ) مر شهر بالتمام علي وجودنا بعيدا عن ذوينا في تلك المدينة العريقة ، وكان وسيلة اتصالنا بهم أجهزة المحمول التي معنا ، وبعد انتهاء الامتحانات عدنا إلي بلدنا وكلنا فرحة بالرجوع ، بدأ العام الدراسي وانهمك كل واحد منا في عمله ، وذات يوم جاءني اتصال من الإسكندرية موطني الأصلي ، المتصل كان ابن أختي ، بعد السلام والسؤال عن الأهل والأحباب والمعارف ، سألني أبن أختي عن زميلي بهاء ، في البداية اندهشت ، سألته لماذا ، فقال : أبدا بس أرجوك يا خالي تأخذ حذرك منه ، زادت دهشتي أكثر وسألته مرة أخري : أخذ حذري منه كيف ولماذا ؟؟ فقال : الأستاذ اللي أنت نازل شكر فيه لدرجة أنك تقول فيه قصائد إنسان خائن ولا يؤتمن جانبه ،قلت لابن أختي : يابني أوضح ؟ فسر ؟ فقال : الأستاذ أرسل رسالة هاتفية لبنت خالي الكبير أدهم رسالة غرامية وكلها عشق وهيام ويطلب منها أن يتصادقا بل أكثر من ذلك طلب أن يخطبها ولكنه اشترط أن يتعارفا أكثر حتي تكون الخطوبة لا لبس فيها ولا تدليس ، سألته وكيف تأكدت أن الذي أرسل الرسالة هو صديقي بهاء ، فقال لي : أنسيت ياخالي أنني مكثت عندك لأكثر من عام وأن تليفون هذا البهاء معي ، الموضوع أنني كنت في زيارة لمنزل خالي الراحل أدهم وأثناء وجودي أرسل هذا السفيه الرسالة فسألتني ابنة خالي إن كنت أعرف صاحب هذا الرقم المصاحب للرسالة والتي غير فيها اسمه إلي منتصر الفولي وحينما شاهدت الرقم أخرجته من تليفوني وعرفت أنه هو ، الذي حيرني وشغل بالي كيف عرف ابنة خالي وهما لم يتقابلا ولا مرة ، وكيف عرف رقم تليفونها ، فقلت له لا تشغل بالك ولسوف أنهي هذا الموضوع بنفسي ،دارت برأسي العديد من الأسئلة ، كيف لهذا البهاء من الحصول علي رقم ابنة أخي وأخذت أرجع بالذاكرة رويدا رويدا وفجأة أضاء نور مباغت مخيلتي حينما تذكرت أنني كنت أترك التليفون علي السرير وأقوم لإعداد شيء ما أو أكون في الحمام آخذ حمام ، فهذا هو تفسير حصول بهاء علي رقم ابنة أخي ولا تفسير آخر ، طلبت من ابنة أخي إرسال شريحة التليفون الخاصة بها إلي ، بالفعل أرسلتها بعد أيام من مهاتفتها ، أخذت الشريحة معي إلي العمل ، كان مدير المدرسة رجل حازم وشديد وكنت أحب التعامل معه لا لشيء وإنما لأنه لا يبخس أحد حقه ولا يلجأ إلي المهادنة أو المواربة في عمله ، طرقت باب مدير المدرسة مستأذنا في الدخول فسمح الرجل ،بعد السلام اتخذت مقعدا بجانب المكتب ، سألني خيرا أستاذ جعفر ؟؟ أجبته مباشرة : أستاذ عبد السميع لن أطيل علي سيادتكم وأرجو عدم دخول أحد علينا لأن الموضوع غاية في الحساسية والأهمية ، ضغط مدير المدرسة زرا بجواره ، فأتي العامل الخاص بمكتبه فطلب منه عدم السماح لأحد بالدخول ، فأومأ العامل برأسه قائلا : حاضر أستاذ عبد السميع وجذب باب المكتب خلفه وانصرف ، اعتدل الرجل في جلسته وهو يقول لي : ها أستاذ جعفر هات ما عندك ، قصصت عليه الموقف بل الأزمة وكان وجه الرجل كلما قصصت عليه يتلون دليل عدم الرضا والانزعاج ، وفي النهاية سألني سؤالا : أستاذ جعفر وهل أنت متأكد أن الرقم الذي أرسل الرسالة لابنة أخيك هو رقم الأستاذ بهاء ؟؟ أجبته : كنت متأكدا أن سيادتكم ستسألني هذا السؤال ولذلك أحضرت الشريحة الخاصة بابنة أخي معي وأريد قبل استعراض الرسالة أن تكون في حضور الأستاذ بهاء ومواجهته أمام سيادتكم ، استخرجت شريحتي من تليفوني أمام مدير المدرسة ووضعت شريحة ابنة أخي ، نادي المدير علي العامل فجاء مسرعا : نعم أستاذ عبد السميع ، فقال له : من فضلك ياعم حسنين اذهب ونادي علي الأستاذ بهاء وأكد عليه ضرورة المجيء إلي مكتب مدير المدرسة فورا ، دقائق وحضر الأستاذ بهاء ، طرق باب المكتب فأذن له المدير بالدخول ، فقال بهاء : نعم سيادة المدير عم حسنين أبلغني أن سيادتكم تريدني في أمر ضروري ، رآني بهاء ، فمد يده إلي بالسلام فبادلته السلام ثم اتخذ مقعدا بجواري وجلس ،وهو يوجه حديثه لمدير المدرسة : أؤمر سيادتك !! ، قال له مدير المدرسة سأسألك سؤالا وأرجو أن تجيبني عليه صراحة ، قال بهاء تفضل حضرتك ، قال مدير المدرسة أستاذ بهاء أنت أرسلت لابنة أخو الأستاذ جعفر رسالة تليفونية بتاريخ 24/8/2007م ، تغير لون بهاء وبهت وأخذ في بلع ريقه بصعوبة مع تلعثمه وظهور العرق الغزير علي وجهه وأجاب بالنفي ، أعاد مدير المدرسة سؤاله لبهاء في هدوء تام قائلا له أن هذه المسألة لا تحتاج نفي لأن معه دليل إدانته ، أقسم بهاء بأنه لم يرسل أية رسائل لأي أحد في هذا التاريخ وظل يناور ويحاور وفي تلك الأثناء دخل الأستاذ عبد الجواد المدير الثاني للمدرسة وكان شخصية مرحة ومحبوب من الجميع ، أشار له مدير أول المدرسة بالجلوس وبعد سماعه للمشكلة حاول إضفاء جو من المرح علي الجلسة التي شابها التوتر والانفعال ،فقال له المدير أستاذ عبد الجواد الموضوع جد خطير ويمس سمعة إنسانة ليست موجودة بيننا فبرجاء خذ الأمر بجدية أكثر ، ووجه حديثه للأستاذ بهاء : أستاذ بهاء نحن نعلم أنك إنسان وقور إن كنت فعلتها اعتذر وينتهي الموضوع ، كانت عبارة الأستاذ عبد الجواد كطوق النجاة الذي سينقذ بهاء من الغرق فقال : بالرغم من أني لم أفعل هذا الأمر المشين فإن كان اعتذاري ينهي الموضوع فأنا اعتذر ، هنا تدخلت بعد استئذان المدير الأول قائلا : لا يا أستاذ بهاء الاعتذار وحده لا ينهي الأمر أنا لدي حق وسوف آخذه بالقانون ، فتبجح بهاء علي وقال : ليس لديك أي حق عندي وإن كان لديك حق فهات الإثبات الذي يدل علي ذلك ، نظرت إلي مدير إدارة المدرسة وابتسمت وأخبرته بأن لدي إثبات قوي جدا وسوف أقدمه للشئون القانونية التي ستبحث في الأمر ، تكهرب الجو وكادت الأمور تنفلت من يد مدير إدارة المدرسة وقد علا الصوت وبدأ كبراء المدرسة يتوافدون مستفسرين عن الأمر إلا أن مدير إدارة المدرسة طلب من الجميع الانصراف إلي أعمالهم ، هدأ الأمر قليلا وطلب مدير إدارة المدرسة من الأستاذ بهاء إعطائه التليفون الخاص به ، كان المدير قد دون في وقت سابق رقم التليفون المدون أسفل الرسالة التي بعثها إيهاب لابنة أخي ، وقام المدير بالاتصال بالرقم وإذا بهاتف الأستاذ بهاء يرن ، فقال له مدير إدارة المدرسة : ما قولك في هذا يا أستاذ بهاء وكان يشير إلي تليفونه ، أجاب بهاء عادي أستاذي فرقم تليفوني مع الجميع بما فيهم حضرتك حتي أن الكشف المعلق بأرقام تليفونات هيئة التدريس بالمدرسة علي الحائط خلف سيادتكم يحتوي علي رقم تليفوني ، فقال له مدير إدارة المدرسة ، ولكني يا أستاذ أخذت الرقم من الرسالة التي بعثت بها وقبل أن تقول شيئا سأريك الرسالة وسوف أجعلك تقرأها ، بالفعل أدار المدير تليفوني المحمول والذي به شريحة ابنة أخي فظهرت الرسالة ولم يستطع بهاء ساعتها الإنكار وقد ألجم فمه ولم ينبس بأي كلمة ، قال مدير المدرسة معقبا علي ذلك : أستاذ بهاء هذه خيانة لصديقك الذي ائتمنك علي تليفونه ولكن ضميرك السيئ قد أشار عليك بالخيانة وطاوعته بالرغم من أنك رجل متزوج ولديك أطفال فلما تصرفت بهذا الشكل المخزي أنت عار علي المدرسة ولا تؤتمن لأن المدرسة بها طالبات واخشي عليهن من أمثالك وإن لم أتخذ إجراء رادع فلسوف أكون خائنا للأمانة مثلك سأرفع شكوى الأستاذ جعفر للإدارة التعليمية للنظر في أمرك وأرجوك لحين البت في أمرك خذ أجازة ولسوف أوافق عليها لأنني ليست في استطاعتي إيقافك عن العمل ، صعد مدير إدارة المدرسة الشكوى التي قدمتها كتابة إلي مدير عام الإدارة التعليمية والذي بدوره حولها للشئون القانونية والتي قامت لاحقا باستدعائي والأستاذ بهاء للتحقيق في أمر الشكوى قدمت مستنداتي التي تدين الأستاذ بهاء وهي شريحة التليفون المحتفظ فيها بالرسالة التي أرسلها الخائن بهاء وفي النهاية صدر قرار الشئون القانونية باستبعاد بهاء عن أي مدرسة مختلطة أو خاصة بالبنات فقط واكتفوا بلفت نظره دون توقيع الجزاء عليه.
ــــــــــــــــــــــــــ
بقلمي / محمود مسعود ( قصة قصيرة ) 23/5/2017م

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق